ابو عمر المدير
عدد الرسائل : 104 العمر : 39 تاريخ التسجيل : 26/09/2007
| موضوع: تنبيهات وضوابط لقراء السّّير 26/11/2007, 1:30 pm | |
| تنبيهات وضوابط لقراء السّّير د.عمر المقبل عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،أما بعد : فإن قراءة السير والأخبار متعة لدى كثير من الناس ، لما فيها من عرض للأحداث في غابر الزمان ،وأخبار أمم وقرون انقرضت ،وفيها من الوقوف على أخبار عقلاء الناس وتجاربهم الشيء الكثير . ولما كانت كتب السير تجمع في طياتها أخبارا وسيرا لم تمحص ،ونقولات لم تعرض على ميزان النقد العلمي ـ لأن غرض المؤلف (غالبا) هو الجمع المحض من غير نقد ولا تمحيص ـ نشأ عن ذلك وجود عدد ليس بالقليل من الأخبار المردودة شرعا ،أو المواقف التي تنسب إلى أعيان من الفضلاء ـ قد يعتذر لهم عنها ـ ولكن لا يتابعون عليها ؛لكون ذلك العمل اجتهاد مطروح ؛ لمصادمته للنص ـ مثلاً ـ .
من هنا أحببت المشاركة بالإشارة إلى بعض الضوابط والتنبيهات التي ينبغي مراعاتها عند قراءة كتب السير والتراجم ،لما يُلحظ من أخطاء في التعامل مع هذه السير والأخبار ،ستتبين من خلال هذه التنبيهات والضوابط التنبه لها :
التنبيه الأول : السير والأخبار فيها الصحيح والضعيف بل والمكذوب ،وإذا كان حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أدخل فيه ما ليس منه من الضعاف والموضوعات ،فما بالك بأخبار الرجال وسيرهم ؟! ولهذا فإن التثبت واجب فيما ينقل من أخبارهم ، خاصة تلك التي يترتب عليها استدلال ـ وهذا فيما يتعلق بالصحابة بالذات وغيرهم على وجه العموم ـ لأن أقوال الصحابة رضي الله عنهم حجة إذا لم يُخالف أحدهم والمسألة مبحوثة في أصول الفقه ،والمقصود التثبت فيما يروى من قدح أو ذم ،يجب أن ينظر في ثبوته عنهم ،فإن الخطأ والتحريف ،والكذب فيما ينقل عمن اشتهر فضلهم ،وورعهم ،وصدقهم ،وبلاؤهم في الإسلام ـ وعلى رأسهم الصحابة – رضوان الله عليهم ـ الخطأ والكذب على هؤلاء كثير . ولما تكلم شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ في "الواسطية " عن منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع ما روي عن الصحابة – رضوان الله عليهم ـ ،وعن الفرق بينهم وبين الرافضة ،قال رحمه الله تعالى:ص (36) : " ويتبرءون من طريقة الروافض ،الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم ،وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقولٍ أو عمل ،ويمسكون عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم ، ويقولون : إن هذه الآثار المروية في مساويهم ،منها ما هو كذب ، ومنها ما قد زيد فيه ونقص ، وغُيِّر عن وجهه ، والصحيح منه هم فيه معذورون : إما مجتهدون مصيبون ،وإما مجتهدون مخطئون " ا. هـ كلامه ـ رحمه الله تعالى ـ . فإذا كان الكذب والخطأ فيما يروى عن الصحابة – رضوان الله عليهم ـ ، فغيرهم من باب أولى ، ولذلك كان مما اختص الله به أمة الإسلام من بين سائر الأمم : الإسناد ،إذْ لولا الإسناد لقال في الدين من شاء أن يقول ، كما قال الإمام عبد الله بن المبارك ـ فيما رواه مسلم في مقدمة صحيحه ـ بل لقد بلغ الأئمة في هذا الباب مبلغا عظيما من الاحتياط ،فصاروا ينقلون أقوال أئمة الجرح والتعديل بالأسانيد ،وهذا ظاهر جلي في كتاب "الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم " أو "المعرفة والتاريخ" ليعقوب بن سفيان وغيرها من الكتب . ويلحظ الناظر في كتاب الحافظ الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ "سير أعلام النبلاء " تطبيقا عمليا لهذا المنهج ،فكم حكم على قصص رويت ،أو أخبار ذكرت بالبطلان !! . ومن عباراته ـ رحمه الله تعالى ـ : " إسنادها مظلم ، إسنادها تالف ،لا تصح ، حكاية منقطعة ..الخ تلك العبارات التي ينقد بها ما يورده من أخبار وحكايات .
التنبيه الثاني : بعد التحقق والتثبت من ذلك المروي عن بعض السلف من قول أو فعل ،سواء كان من الصحابة – رضوان الله عليهم ـ أو غيرهم ، فينبغي أن يعذر ذلك الشخص فيما نقل عنه إن تبين خطؤه فيه ، وأن يعلم أنه لا يمكن أن يصدر تعمد مخالفة السنة ممن عرف بالفضل والعلم والصلاح ،كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه القيم : "رفع الملام عن الأئمة الأعلام " ،يقول رحمه الله تعالى في مقدمة هذا الكتاب : " وليعلم أنه ليس أحدٌ من الأئمة ـ المقبولين عند الأمة قبولا عاماً ـ يتعمد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من سنته دقيقٍ ولا جليل ،فإنهم متفقون اتفاقا على وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك ،إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه ،فلا بد له من عذر في تركه ،وجميع الأعذار ثلاثة أصناف : أحدها : عدم اعتقاده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله . والثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول . والثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ . وهذه الأصناف الثلاثة ، تتفرع إلى أسباب متعددة ... " ثم ذكرها ـ رحمه الله تعالى ـ وهي جديرة بالمراجعة لأهميتها ،والمقصود هنا ،وجوب التماس العذر لمن هذه صفته والله المستعان .
التنبيه الثالث : أن الشخص قد يقرأ في بعض السير ـ وأعني بذلك سير التابعين ومن بعدهم ـ أخباراً عن أحوال وأقوال زائدة عن الأحوال التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم ،فبالإضافة إلى ما سبق من التنبيهين السابقين :[وهما : التثبت في النقل ،والتماس العذر لمن ثبتت عنه المخالفة ] فلا بد من الوقوف مع هذه المسألة لكثرة ما يعرض لقراء السير من ذل . وأكتفي في التنبيه على هذه القضية بذكر كلام متين لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في الفتاوى" 11/13-14 حينما تكلم عن بعض الأحوال التي تذكر عن بعض الصالحين من الزهاد والعباد والتي وقع فيها زيادة في العبادة والأحوال ،قال ـ رحمه الله تعالى ـ : " وكذلك ما يذكر عن أمثال هؤلاء من الأحوال من الزهد والورع والعبادة ،وأمثال ذلك ،قد ينقل فيها من الزيادة على حال الصحابة رضي الله عنهم ،وعلى ما سنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمور توجب أن يصير الناس على طرفين : قومٌ يذمون هؤلاء وينتقدونهم وربما أسرفوا في ذلك ، وقومٌ يغلون فيهم ويجعلون هذا الطريق من أكمل الطرق وأعلاها ،والتحقيق أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهدون ... إلى أن قال : والصواب للمسلم : أن يعلم أن خير الكلام كلام الله ،وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ،وخير القرون القرن الذي بُعث فيهم ، وأن أفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه ،ويُعْلم من ذلك أن على المؤمنين أن يتقوا الله بحسب اجتهادهم ووسعهم ،كما قال تعالى : "فاتقوا الله ما استطعتم " وقال - صلى الله عليه وسلم - :"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ،وقال تعالى :" لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " وإن كثيرا من المؤمنين ـ المتقين أولياء الله ـ قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ما حصل للصحابة ،فيتقي الله ما استطاع ،ويطيعه بحسب اجتهاده ،فلا بد أن يصدر منه خطأ : إما في علومه وأقواله ،وإما في أعماله وأحواله ،ويثابون على طاعتهم ،ويُغفر لهم خطاياهم ،فإن الله تعالى قال : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ،كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، ...إلى قوله : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال الله تعالى : قد فعلت ،فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ ضال مبتدع ، ومن جعل كل مجتهد في طاعةٍ أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا ،فهو مخطئ ضال مبتدع ..." . ولعلي أضرب لذلك مثلاً يمر كثيرا بقراء بعض سير العباد ،فمثلاً : قد يقرأ أحدنا في ترجمة رجلٍ ما : أنه كان يقوم الليل كله ، أو كان يختم القرآن كل يوم ، أو كان يصوم الدهر ،فإذا عرضنا هذه الأعمال على السنة وجدنا بعضها مخالف صراحةً للسنة كقيام الليل كله كما قالت عائشة رضي الله عنها ،وبعضها الراجح فيها من حيث الدليل ـ أيضا ـ أنها مخالفة للسنة كختم القرآن في أقل من ثلاث ، أو صيام الدهر .
التنبيه الرابع : أنه ينبغي ـ بعد التثبت ـ من صحة ما قرأ ، أن يسأل عن سبب هذا النقد ؛ أو ذاك الذم ، فقد يكون الدافع لذلك النقد الذي وُجِّه إلى ذلك الشخص هو الحسد ، أو هو من قبيل التنافس بين الأقران ، وما أعظم أثر هذا السبب !!! ولهذا لما أورد الحافظ الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ بعض الحكايات وكلام الأقران بعضهم في بعض في كتابه " سير أعلام النبلاء " قال ـ رحمه الله تعالى ـ : 5/275 : " كلام الأقران يطوى ولا يروى ، فإن ذُكر ، تأمله المحدّث فإن وجد له متابعا وإلا أعرض عنه " وقال مرةً (10/92) : " كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية ، لا يلتفت إليه ، بل يطوى ولا يروى ..." ا.هـ . والإنسان بشر ، يغضب وتعتريه حِدّة نفَس ،ويغلط في بعض الأحيان ، فتصدر منه بعض الكلمات التي قد يتراجع عنها فيما بعد . وقد يكون ذلك النقد وهماً من أحد النقاد بحيث يريد شخصا فيقع النقد على آخر ، وهذا كثير في كتب الرجال والتراجم . ومن الأمثلة على ذلك ـ وهو محل تأمل ـ أن ابن حبان جزم في أن النسائي أنما تكلم في أحمد بن صالح الشمومي ، لا في أحمد بن صالح المصري الإمام الحافظ المشهور ـ كما في التقريب(48) ـ وهذا مبحث معروف عند أهل العلم ، وهو مبحث : الرواة الذين يقع الاشتباه في أسمائهم ، ولا يكاد يسلم من الوهم فيه إمام من الأئمة ، رحمة الله على الجميع .
التنبيه الخامس : أن ما ذكر من التنبيهات ،ينبغي ألا يحدث ردة فعل عكسية ،بحيث يبدأ الإنسان لا يقبل ثناءً ولا مدحا قيل في فلان إلا بعد التثبت والنظر ، كلا ، فجانب المدح والثناء على الشخص الأمر فيه أسهل ، والخطب فيه أيسر ، اللهم إلا إذا ترتب على توثيقه وتعديله أثراً في الحكم على الأحاديث النبوية ، فهنا يأتي مجال الجرح والتعديل لرواة الحديث النبوي ، ولهذا الميدان رجاله وفرسانه . أما إذا كان المدح والثناء على شخص بكثرة التعبد ، وبالزهد ،وببر الوالدين ، وصلة الأرحام ، فلا حاجة هنا للبحث والتفتيش ، إذْ الأصل في المسلم عموماً هو الخير والصلاح ، فكيف إذا نقل هذا عن أهل علم وفضل وصلاح ؟! . وعلى كل حال : فإن الإنسان إذا اشتهر فضله ،وذاع في الخير صيته ، وعُرِف صلاحه عند صلحاء الأمة ، كان ذلك برهانا على صلاحه ،وأمر السرائر إلى الله تعالى ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ كما في الصحيحين ـ من حديث أنس – رصي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم شهداء الله في الأرض ،أنتم شهداء الله في الأرض ،أنتم شهداء الله في الأرض " .
التنبيه السادس والأخير : يقف بعض قراء السير على مواقف لبعض السلف – رضوان الله عليهم ـ ، سواء كان ذلك الموقف في التعامل مع الأهل ، أو مع الوالدين ، أو مع الأصحاب ، أو حتى مع السلاطين والحكام ، فيتخذ من ذلك الموقف أو تلك القصة منهجا يتعامل به ، وقد يكون ذلك الموقف غير صحيح من الناحية الشرعية ،وهو إما اجتهاد مرجوح ، أو غلط صدر منه وهو معذور فيه ، لكنه لا يتابع عليه . ومكمن الخطأ الذي قد يقع فيه البعض هنا ، أنه يبدأ يتحاكم إلى هذا الموقف ، فيصوب ما وافقه ، ويخطّئ ما خالفه ،وأشد من ذلك أن يجعل هذا الفعل منهجاً ،فيقول : منهج السلف هكذا ، وهذه طريقة السلف ، وهو حينما يتحدث ، ربما ليس في ذهنه إلا هذا المثال ،مع أنه قد يتبين من خلال البحث أن ذلك الإمام مخالف من قِبَل آخرين من ممن شهدت لهم الأمة بالإمامة . إن من الخطأ البين أن يختصر منهج السلف كله في منهج رجل أو رجلين ، أصاب أو أخطأ !! إن منهج السلف – رضوان الله عليهم ـ يتشكل من النظر في سيرة عشرات بل مئات من الأئمة الذين عاشوا في تلك الحقبة المباركة من عمر هذه الأمة ، فبمجموع ما ينقل عنهم ويُسْتقرأ من أحوالهم ـ إما كلُهم أو أغلبُهم على الأقل ـ يمكن أن يصف الإنسان ذلك المنهج بأنه منهج السلف أو بعبارة أدق : منهج كثير من السلف .
ومما ينبغي التنبه له أيضاً ، معرفة منازل أولئك الأئمة ،ومقدار بلائهم في الدين ، علما وعملاً ودعوة ،ولكل منهم قدره وفضله ،لكن : " ولكل درجات مما عملوا " . هذا ما أحببت الإشارة إليه في هذه العجالة ، وفي اعتقادي أن الموضوع يحتاج إلى بسط ومزيد أمثلة ، ولعل فيما تقدم تنبيه على ما لم يذكر ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . | |
|